فصل: بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}
مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ هَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَالَ: إِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْكُمْ. وَقَالَ بِهَذَا مِنَ الْفُقَهَاءِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ إِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ، وَقَائِلُوا هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ أَوَّلَ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ فِيهَا يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ فَكَانَ الْأَدْعَى لَهُمْ وَالْأَصْلَحُ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى حُكَّامِهِمْ فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُسِخَتْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ يَعْنِي الْمَائِدَةَ آيَتَانِ آيَةُ الْقَلَائِدِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ فَنَزَلَتْ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا.
وَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُدْخِلُونَهُ فِي الْمُسْنَدِ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّقْرِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا، مَنْصُورٌ، وَغَيْرُهُ عَنِ الْحُكْمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالسُّدِّيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَلَا خِيَارَ لَهُ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الِاحْتِجَاجَاتِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَلَّا يُرَدُّوا إِلَى حُكَّامِهِمْ فَإِذَا وَجَبَ هَذَا فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَةَ وزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الْإِمَامِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فَإِنْ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ لَمْ يَحْكُمْ وَقَالَ الْبَاقُونَ: بَلْ يَحْكُمُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ مَعَ مَا صَحَّ فِيهَا مِنْ تَوْقِيفِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ النَّظَرُ يُوجِبُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا جَمِيعًا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بَيْنَهُمْ مُصِيبٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مُصِيبٌ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ وَأَلَّا يُعْرِضَ عَنْهُمْ فَيَكُونُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَارِكًا فَرْضًا فَاعِلًا مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا يَسَعُهُ وَلِمَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ قَوْلٌ آخِرُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُقِيمَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 49] يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْكَ، وَالْآخَرُ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْكَ إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، قَالُوا: فَوَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوجِبُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا.
فأما مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وَأَمَّا مَا فِي السُّنَّةِ فَحَدِيثُ الْبَرَاءِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ قَدْ جُلِدَ وَحُمِّمَ قَالَ: «أَهَكَذَا حَدُّ الزَّانِي عِنْدَكُمْ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: «سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ أَهَذَا حَدُّ الزَّانِي فِيكُمْ؟» فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ سَأَلْتَنِي بِهَذَا مَا أَخْبَرْتُكَ كَانَ الْحَدُّ عِنْدَنَا الرَّجْمُ فَكَانَ الشَّرِيفُ إِذَا زَنَى تَرَكْنَاهُ وَكَانَ الْوَضِيعُ إِذَا زَنَى رَجَمْنَاهُ فَقُلْنَا تَعَالَوْا نَجْتَمِعُ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ لِلشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَاجْتَمَعْنَا عَلَى الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إِلَى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] أَيِ ائْتُوا مُحَمَّدًا فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَاقْبَلُوهُ {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أَيْ فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَلَا تَقْبَلُوا إِلَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، قَالَ فِي الْيَهُودِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
قَالَ فِي الْيَهُودِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] قَالَ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَهُودِيِّ فَرُجِمَ، وَقَالَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ» فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ، أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّ اللَّذَيْنِ زَنَيَا رَضِيا بِالْحُكْمِ وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأما مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] أَنَّهُ فِي الْيَهُودِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مُشَاهِدٍ لِلتَّنْزِيلِ يُخْبِرُ أَنَّ بِذَلِكَ السَّبَبِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ فِيهِ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ {جَلَّ وَعَزَّ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ الْيَهُودُ غَيْرَ أَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِمْ كَحُكْمِهِمْ فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ جَاحِدًا لَهُ كَمَا جَحَدَتِ الْيَهُودُ فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ وَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَهِيَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ} [المائدة: 106] الْآيَةَ.
لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ مِنْهَا أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ فِي السَّفَرِ إِذَا كَانَتْ وَصِيَّةً وَقَالَ قَوْمٌ كَانَ هَذَا هَكَذَا ثُمَّ نُسِخَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ بِحَالٍ وَقَالَ قَوْمٌ الْآيَةُ كُلُّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَهِدُوا فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى وَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْحُضُورِ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّهَادَةَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْيَمِينِ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: عَنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُشْهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عِدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنِ ارْتِيبَ بِشَهَادَتِهِمَا اسْتُحْلِفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَمْ نَشْتَرِ بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ كَذَّبَا حَلِفًا بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِينَ بَاطِلَةٌ وَأَنَّا لَمْ نَعْتَدَّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة: 107] يَقُولُ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُمَا كَذِبَا قَامَ الْأَوْلَيَانِ فَحَلَفَا أَنَّهُمَا كَذِبَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ أَدْنَى} [المائدة: 108] أَنْ يَأْتِيَ الْكَافِرَانِ {بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] فَتُتْرَكُ شَهَادَةُ الْكَافِرِينَ وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ إِقْسَامٌ إِنَّمَا الْإِقْسَامُ إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ.
فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَشْرُوحًا مُبَيَّنًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ شَرْحٍ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ شُرَيْحٌ قَالَ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ إِذَا كَانَتْ وَصِيَّةً وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ بِحَالٍ كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ لَا مَنْسُوخَ فِيهَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّقْرِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، وَغَيْرُهُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، قَالَ: مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ إِنَّ الشَّهَادَةَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْحُضُورِ يَحْتَجُّ قَائِلُهُ بِمَا يَعَارَضُ بِهِ تِلْكَ الْأَقْوَالُ مِمَا سَنَذْكُرُهُ وَكَذَا الْقَوْلُ الْخَامِسُ إِنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] فَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَنَصُّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَلَا يَرْضَى الْكُفَّارَ وَلَا يَكُونُونَ ذَوَيْ عَدْلٍ وَيُعَارَضُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ شَهَادَةَ الْفُسَّاقِ لَا تَجُوزُ وَالْكُفَّارُ فُسَّاقٌ وَأَجْمَعُوا أَيْضًا أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ لَا تَجُوزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَيَرِدُ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَهَذِهِ احْتِجَاجَاتٌ بَيِّنَةٌ وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَهَا بِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَأَنَّهُ قَدْ قَالَهُ صَحَابِيَّانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ يَنْفُرُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ قَالَ فَيُجْعَلُ هَذَا عَلَى الضَّرُورَةِ كَمَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ وَكَمَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ فِيهِ وَالْإِفْطَارُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الضَّرُورَاتُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْحَالِ وَلَيْسَ كَذَا الشَّهَادَةُ وَعُورِضَ مَنْ قَالَ بِنَسْخِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ شَهِدَ التَّنْزِيلَ وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا شَيْئًا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ غَامِضًا وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى آخَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ آخَرُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَكَرِيمٍ آخَرَ فَقَوْلُكَ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَخَسِيسٍ آخَرَ وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ آخَرَ فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ عَدْلَانِ وَالْكُفَّارُ لَا يَكُونُونَ عُدُولًا فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُورِضَ لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] فَخُوطِبَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُقَالُ لِمَنْ عَارَضَ بِهَذَا: هَذَا مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ يَسْتَغْنِي عَنِ الِاحْتِجَاجِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةَ، وَقَدِ احْتَجَّ قَائِلُهُ بِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ غَيْرَ هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَيَرُدُّ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى مَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ شَهِدْتُ وَصِيَّةَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْتُ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ مَعْرُوفٌ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِيهِ شَهَادَةِ أَحَدِكُمْ أَيْ يَمِينُ أَحَدِكُمْ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ وَحَقِيقَتِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ: يَمِينُ اثْنَيْنِ مِثْلَ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
قُرِئَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ يَخْتَلِفَانِ إِلَى مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَتُوُفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا فَدَفَعَا تَرِكَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَحَبَسَا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ فَفَقَدَهُ أَوْلِيَاءُ السَّهْمِيِّ مِنْ تَرِكَتِهِ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَتَمْنَا وَلَا اطَّلَعْنَا ثُمَّ عُرِفَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ، وَعَدِيٍّ فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لِجَامُ السَّهْمِيِّ وَلَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا أَنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ فَأَخَذَ الْجَامَ وفيهمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»
وقُرِئَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ زَاذَانَ، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبَى طَالِبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] قَالَ: «بَرِئَ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرِي وَغَيْرُ عَدَيِّ بْنِ بَدَّاءٍ وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُرَيْرُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ لِتِجَارَةٍ وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبْلِغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقُلْنَا مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قَدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِيٍّ مِثْلَهَا فَوَثَبُوا إِلَيْهِ فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُعَظَّمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: 106] قَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَحَلَفَا فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا مَا فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْقِصَّةِ مِنَ الْآثَارِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ نُبَيِّنُهُمَا عَلَى مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الْأَبْيَنُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ قَسَمٌ بَيْنَكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ أَنْ يُقْسِمَ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي أَوْ هُنَا قَوْلَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَوْ هَاهُنَا لِلتَّعْقِيبِ وَأَنَّهُ إِذَا وَجَدَ اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ كَافِرَيْنِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ وَقَدْ يَكُونُ الْمُوصِي يَرَى أَوْ يُسْنِدُ وَصِيَّتَهُ إِلَى كَافِرَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيَّيْنِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ هُوَ الْقَوْلُ الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 106] قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ سَافَرْتُمْ وَكَذَا هُوَ فِي اللُّغَةِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُسْتَدَلٌّ عَلَيْهِ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ سَافَرْتُمْ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ وَقَدْ أَسْنَدْتُمْ وَصِيَّتَكُمْ إِلَى اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَإِنِ ارْتَبْتُمْ أَيِ اتَّهَمْتُمُ الْوَصِيَّيْنِ وَالتَّقْدِيرُ أَوْ آخَرَيْنَ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَقَالَ أَكْثَرَهُمْ هِيَ الْعَصْرُ فَمِمَّنْ قَالَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ وَاسْتَعْمَلَهُ وَقَضَى بِهِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ صَلَاةٌ مِنْ صَلَوَاتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَهُوَ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَجَاءَتْ مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِذَا كَانَ بَعْدَ صَلَاةٍ مِنْ صَلَوَاتِهِمْ كَانَتْ نَكْرَةً، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَ الْعِجْلَانِيِّينَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَخَصَّهَا بِهَذَا وَيُقَالُ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَيْضًا يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ وَهُمَا الْوَصِيَّانِ وَلَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا أَيْ لَا نَشْتَرِي بِقَسَمِنَا شَيْئًا نَأْخُذُهُ مِمَّا أَوْصَى بِهِ وَلَا نَدْفَعُهُ إِلَى أَحَدٍ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ أَيْ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ عِنْدَنَا إِنَّا إِذًا لِمَنِ الْآثِمِينَ أَيْ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107] أَصْلُهُ مِنْ عَثُرْتُ بِالشَّيْءِ أَيْ وَقَعْتُ عَلَيْهِ أَيْ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَوْجَبَا إِثْمًا بِكَذِبِهِمَا فِي أَيْمَانِهِمَا وَأَخْذِهِمَا مَا لَيْسَ لَهُمَا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا أَيْ فِي الْأَيْمَانِ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ تَقْدِيرُ هَذَا فِي الْعَرَبِيَّةِ مُخْتَلِفٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ مِنْهُمُ الْأَوْلَيَانِ وَعَلَيْهِمْ بِمَعْنَى مِنْهُمْ مِثْلَ: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى فِيهِمْ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ فِيهِمْ إِثْمُ الْأَوْلَيَيْنِ ثُمَّ حُذِفَ إِثْمُ مِثْلَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ التَّقْدِيرُ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِيصَاءُ وَالْأَوْلَيَانِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَآخَرَانِ} [المائدة: 107].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ حَرْفًا بَدَلًا مِنْ حَرْفٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّفْسِيرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْأَوْلَيَانِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ وَقِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَحَمْزَةَ الْإِوَّلَيْنِ وفيها مِنَ الْبُعْدِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ وَالْأَوَّلَيْنِ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا أَيْ لَقَسَمُنَا، فَصَحَّ أَنَّ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هَاهُنَا الْقَسَمُ وَمَا اعْتَدَيْنَا أَيْ وَمَا تَجَاوَزْنَا الْحَقَّ فِي قَسَمِنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ إِنْ كُنَّا حَلَفْنَا عَلَى بَاطِلٍ وَأَخَذْنَا مَا لَيْسَ لَنَا وَصَحَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ إِلَى آخَرَ فَاتَّهَمِ الْوَرَثَةُ الْمُوصَى إِلَيْهِ حَلَفَ الْمُوصَى إِلَيْهِ وَبَرِئَ فَإِنِ اطُّلِعَ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى إِلَيْهِ خَانَ وَذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ أَوْ يُوجَدُ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لِلْمَيِّتِ فَيَقُولُ الْمُوصَى إِلَيْهِ قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ فَيَحْلِفُ الْوَارِثُ وَيَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي اسْتِحْلَافِ الشَّاهِدَيْنِ هَاهُنَا لِمَنْ وَجَبَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا وَصِيَّةً مِنَ الْمَيِّتِ وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ وَصِيَّةً فَيَحْلِفُ وَيَأْخُذُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّمَا يَحْلِفَانِ إِذَا شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى بِمَا لَا يَجُوزُ أَوْ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَوْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ وَهَذَا أَيْضًا لَا يُعْرَفُ فِي الْأَحْكَامِ أَنْ يَحْلِفَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ أَنَّ الْمُوصَى أَوْصَى بِمَا لَا يَجُوزُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّمَا يَحْلِفَانِ إِذَا اتُّهِمَا ثُمَّ تُنْقَلُ الْيَمِينُ عَنْهُمَا إِذَا اطُّلِعَ عَلَى الْخِيَانَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى} [المائدة: 108] أَيْ أَقْرَبُ {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] وَهُمَا الْمُوصَى إِلَيْهِمَا أَوْ يَخَافُوا {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] وَهِيَ أَيْمَانُ الْأَوْلَيَيْنِ أَيِ الْأَوْلَيَيْنِ بِالْيَمِينِ لَمَّا ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْمُوصَى إِلَيْهِمَا، وَقِيلَ هُمَا الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] أَيْ اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ قَابِلِينَ لَهُ مُتَّبِعِينَ أَمْرَاللَّهِ تَعَالَى فِيهِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] أَيِ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ كُلُّ فَاسِقٍ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فَمَعْنَاهُ الْكَاذِبُ.

.سورة الْأَنْعَامِ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنِي يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ، يَقُولُ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ تَلْخِيصِ آيِ الْقُرْآنِ الْمَدَنِيِّ مِنَ الْمَكِّيِّ فَقَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمُ} [الأنعام: 151] إِلَى تَمَامِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِذَا كَانَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] لِلزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهَذَا يُشْرَحُ فِي مَوْضِعِهِ وَإِذَا كَانَتِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً فَلَا يَكَادُ يَكُونُ فِيهَا آيَةٌ نَاسِخَةٌ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّوَرِ فَهُنَّ مَدَنِيَّاتٌ أَعْنِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ حَدَّثَنِي يَمُوتُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ.
وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ آيَاتٌ قَدْ ذُكِرَتْ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

.فَالْآيَةُ الْأُولَى مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66].

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] قَالَ: نَسَخَ هَذَا آيَةُ السَّيْفِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا خَبَرٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ وَمَعْنَى: وَكِيلٌ حَفِيظٌ وَرَقِيبٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِمْ بِحَفِيظٍ إِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُمْ وَعِقَابُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ نَظِيرُهَا.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 69].
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 69] قَالَ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نُسِخَتْ بِالْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] فَنَسَخَ هَذَا مَا قَبْلَهُ وَأُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ لَا يَقْعُدُوا مَعَ مَنْ يَكْفُرُ بِالْقُرْآنِ وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 69] خَبَرٌ وَمُحَالٌ نَسْخُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ بَيِّنٌ لَيْسَ عَلَى مَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى إِذَا نَهَى إِنْسَانًا عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ حِسَابِهِ شَيْءٌ اللَّهُ مُطَالِبُهُ وَمُعَاقِبُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُ وَلَا يَقْعُدَ مَعَهُ رَاضِيًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِلَّا كَانَ مِثْلَهُ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَإِنْ كَانَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا مِنْ حَدِيثِ جُوَيْبِرٍ، وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَرِيبَةٌ مِنْهُمَا.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام: 70].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام: 70] قَالَ: نَسَخَهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا لَيْسَ بِخَبَرٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ غَيْرَ أَنَّ الْبَيِّنَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا أَيْ: ذَرْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَالِبُهُ وَمُعَاقِبُهُ وَمِثْلُهُ {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ الْعَشْرُ وَنِصْفُ الْعَشْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَعْنِي بِهَذَا الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَاجِبَةٌ يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ عَلَى النَّدْبِ فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: كَمَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ كَانَ الرَّجُلُ يَبْدَأُ بِعَلْفِ الدَّابَّةِ وَبِالشَّيْءِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وعِكْرِمَةَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَمِمَّنْ قَالَ نُسِخَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: نَسَخَتْهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ.
وقُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ شِبَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: نَسَخَتْهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالسُّدِّيِّ وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
كَمَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: الزَّكَاةُ.
وقُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]: أَنَّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي مَعْنَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ بَعْدَهُ وَقَدْ قِيلَ بَلْ يَجِبُ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً لِأَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ فِي الرُّمَّانِ زَكَاةٌ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الثِّمَارِ إِلَّا فِي النَّخْلِ، وَالْكَرْمِ وَفِي نَصِّ الْآيَةِ ذِكْرُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ وَقَدْ قَالَ بِمِصْرَ لَيْسَ فِي الزَّيْتُونِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ أُدْمٌ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّ فِيَ الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَإِنَّ مَعْنَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] أَنْ يُعْطِي مِنْهُ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ وَأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ مَا سَقَطَ.
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: يَدَعُ الْمَسَاكِينَ يَتَّبِعُونَ أَثَرَ الْحَصَّادِ فَمَا سَقَطَ عَنِ الْمِنْجَلِ أَخَذُوهُ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَدْ رُوِيَ وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ حَصَادَ اللَّيْلِ مِنْ أَجْلِ هَذَا وقُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: كَانُوا يُعْطُونَ مَنِ اعْتَرَّ بِهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وعَطِيَّةَ وَهَوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ حَصَادِ اللَّيْلِ».
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] عَلَى النَّدْبِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَعْنَى آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا فَخَرَجَ عَنْ قَوْلِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يُعَدَّ خِلَافًا فَبَطَلَ هَذَا، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ فَيُعَارَضُ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالزَّكَاةُ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَنَازُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] لَوْ كَانَ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَجَبَ أَنْ تُعْطَى وَقْتَ الْحَصَادِ وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ وَصَحَّتْ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُعْطَى إِلَّا بَعْدَ الْكَيْلِ وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْآيَةِ {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا فِي الزَّكَاةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الزَّكَاةِ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ الثَّمَرِ وَفِي كُلِّ مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا الْفُقَهَاءِ إِلَّا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي هَذَا مِنْ قَوْلِ مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيَ كُلِّ هَذَا الزَّكَاةَ إِلَّا فِي الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَقَدْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِمَّا فِي الْآيَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ فِيَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْهَا الزَّكَاةَ: الْحِنْطَةُ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ فَهَذَا إِجْمَاعٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ إِلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْحِنْطَةُ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فَمِمَّنْ قَالَ هَذَا الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ إِنَّ مُعَاذًا وأَبَا مُوسَى لَمَّا بُعِثَا لِيُعَلِّمَا النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ لَمْ يَأْخُذَا الزَّكَاةَ فِيمَا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ أَنَّ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ، فَلَمَّا أُجْمِعَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَبَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِهَا لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ السُّلْتَ وَالزَّيْتُونَ وَزَادَ الزُّهْرِيُّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ الزَّيْتُونَ وَالْحُبُوبَ كُلَّهَا وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ فِيَ الزَّيْتُونِ الزَّكَاةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ ثُمَّ قَالَ بِمِصْرَ فِي الزَّيْتُونِ لَا أَرَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ أُدْمٌ لَا أَنَّهُ يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ وَقَالَ يَعْقُوبُ، وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ وَيَبْقَى فَفِيهِ الزَّكَاةُ فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَأَكْثَرُهُمُ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ ضَمَّ إِلَيْهَا الْحُبُوبَ وَمَا يُقَتْاتُ بِهِ فَإِنَّمَا قَاسَهُ عَلَيْهَا وَمَنْ ضَمَّ إِلَيْهَا الزَّيْتُونَ فَإِنَّمَا قَاسَهُ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ هَكَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ اَحْتَجَّ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ غُلَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: «مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ مِمَّا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا كَالْآيَةِ وَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ بِأَنَّهُ لَا فَرْضَ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ إِلَّا لِمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ نَسْمَعُ لِصَوْتِهِ دَوِيًّا وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ» قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ».
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَاسْتِقَامَةِ طَرِيقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا الْخَمْسُ وَلَا مِنَ الصَّدَقَةِ إِلَّا الزَّكَاةُ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْآيَةِ فَرْضٌ سِوَى الزَّكَاةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتِ الزَّكَاةُ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَدْبًا لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً.
فأما {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مَعْنَى: {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] لَا تَمْنَعُوا مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا إِذَا حَصَدُوا أَعْطَوْا ثُمَّ تَبَارَوْا فِي ذَلِكَ حَتَّى أَجْحَفُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141].
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ جَدَّ نَخْلًا لَهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ أَلَا أَعْطَاهُ فَأَمْسَى لَيْسَتْ لَهُ تَمْرَةٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
وَقَالَ ابْنُ زَيْدِ وَلَا تُسْرِفُوا لِلْوُلَاةِ أَيْ وَلَا تَأْخُذُوا مَا لَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا غَيْرُ مُتَنَاقِضَةٍ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي اللُّغَةِ فِعْلُ مَا لَا يَنْبَغِي فَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَوَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ وَمَعْنَى {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] لَا يُثِيبُهُمْ وَلَا يَقْبَلُ أَعْمَالَهُمْ مَجَازًا، وَتَقْدِيرُ {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 141] وَشَجَرُ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ مِثْلُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}.
قَالَ قَتَادَةُ {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} يَتَشَابَهُ وَرَقُهُ وَيَخْتَلِفُ ثَمَرُهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَشَابَهُ لَوْنُهُ وَيَخْتَلِفُ طَعْمُهُ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99] وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَثُمُرٌ جَمْعُ ثِمَارٍ وَثِمَارٌ جَمْعُ ثَمَرَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ أَصْلُ الْإِسْرَافِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِخْطَاءُ فِي إِصَابَةِ غَيْرِ الْحَقِّ إِمَّا بِزِيَادَةٍ وَإِمَّا بِنُقْصَانٍ مِنَ الْحَدِّ الْوَاجِبِ، وَأَنْشَدَ: البحر البسيط:
أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ ** مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ

أَيْ خَطَأٌ وَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، قَالَتْ طَائِفَةٌ هِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ مِنْهَا أَلَّا يَحْرُمُ أَلَا مَا فِيهَا فَلَمَّا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ نُسِخَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْهَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَلَا حَرَامَ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا مَا فِيهَا وَأَحَلُّوا مَا ذَكَرْنَا وَغَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ فِيهَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْمُومٌ إِلَيْهَا دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَوَّابٌ لِمَا سَأَلُوا عَنْهُ فَأُجِيبُوا عَمَّا سَأَلُوا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَا فِي الْآيَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا حُرِّمَ وَإِحْلَالُ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَيُقَالُ إِنَّهُ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَثَمَّ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ نَبْدَأُ بِهَا فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ، رِجَالٍ، مِنْ مُزَيْنَةَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبْجَرَ أَوِ ابْنِ أَبْجَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُطْعِمَهُ أَهْلِي إِلَّا حُمُرٌ لِي، قَالَ: «أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ فَإِنَّمَا كَرِهْتُ لَكُمْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ».
فَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي إِحْلَالِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَرِهَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَذِرَ كَمَا كَرِهَ الْجَلَّالَةَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أَكَلْتُ الْحُمُرَ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أَكَلْتُ الْحُمُرَ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ فَكُفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ» فَهَذَا مَا فِيهِ مِنَ الْمُسْنَدِ.
وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ إِذْ ذُكِرَ لَهَا النَّهْيُ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَنْهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَيَأْمُرُ بِلُحُومِ الْخَيْلِ. وَأَبَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَلَا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] حَكَى ذَلِكَ عَمْروٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا مَا فِيهِ عَنِ التَّابِعِينَ فَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُزَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: ذَكَرْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي النَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْحُمُرُ تَأْكُلُ الْقَذِرَ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ مَا تَقُولُ فِي لَحْمِ الْفِيلِ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تُعَارِضُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ.
فأما مُعَارَضَتُهَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ الَّذِي فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ أُطْعِمُهُ أَهْلِي إِلَّا حُمُرٌ لِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُمُرُ وَحْشِيَّةً وَيَكُونُ أَكْلُهَا جَائِزًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَلَّهَا لَهُ عَلَى الضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي فِيهِ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِمَا نَادَى بِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّهَا رِجْسٌ، فَالرِّجْسُ بِالْحَرَامِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْحَلَالِ وفيه فَكُفِئَتِ الْقُدُورُ وَالْحَلَالُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْلَبَ وَالَّذِي تَأَوَّلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُخَالِفُ فِيهِ وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ يُقَالُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ امْرُؤٌ تَائِهٌ قَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتْعَةَ وَلُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَقَالَ بِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ وَأَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْخَيْلَ مِنَ الْآيَةِ وَالْحُمُرُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ فِي الْخَيْلِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ بِأَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ دَاخِلَةٌ فِيهَا قَوْلٌ نَظَرِيٌّ لِأَنَّ التَّذْكِيَةَ إِنَّمَا تُؤْخَذُ تَوْقِيفًا فَكُلُّ مَا لَمْ تُؤْخَذْ تَذْكِيَتُهُ بِالتَّوْقِيفِ فَهُوَ مَيْتَةٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يُضَمَّ إِلَى الْآيَةِ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلٌ حَسَنٌ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يَقُولُ بِتَحْلِيلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ فَلَقِيَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ فَحَدَّثَهُ عَنْ، أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ فِيهِ نَهْيًا وَهُوَ عِنْدِي حَلَالٌ وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَقَعْ إِلَى مَالِكٍ فَعُذِرَ بِذَلِكَ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْآيَةَ جَوَّابُ قَوْلٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ جَوَابًا فَقَدْ أُجِيبُوا عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ وَثَمَّ مُحَرَّمَاتٌ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِحَالِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا جَوَّابٌ أَنَّ قَبْلَهَا {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] وَمَا مَعَهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ الْخَامِسُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ شَيْءٌ قَدْ ذَكَرَهُ قَوْمٌ هُوَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِمَعْزِلٍ وَلَكِنَّا نَذْكُرُهُ لِيَكُونَ الْكِتَابُ عَامَّ الْفَائِدَةِ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فَفِي هَذِه أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمُ} [المائدة: 5]، وَهُمْ يَذْكُرُونَ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبِيحَةٍ إِلَّا أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَإِنْ تَرَكَهُ تَارِكٌ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنْ تُؤْكَلَ إِذَا نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنْ تُؤْكَلَ ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَوْلُ عِكْرِمَةَ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] قَالَ: فَنَسَخَ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ سُئِلَ عَنْ ذَبِيحَةِ النَّصَارَى، هَلْ تُؤْكَلُ إِذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: نَعَمْ تُؤْكَلُ وَلَوْ قَالُوا عَلَيْهَا بِاسْمِ جِرْجِسَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَعَطَاءٍ قَالَ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَهُوَ يُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَوْ كَانَ إِجْمَاعًا لَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ وَلَكَانَ اسْتِثْنَاءً عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ تَسْمَعْ فَكُلْ لِأَنَّهُ قَدْ أُحِلَّ لَكَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا لَمْ يُذْكَرِ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ وَعَارَضَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَسَادِهِ إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى غَيْرِهِ وَالْجَمَاعَةَ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا مِنْ فَسَادِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: {لَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ إِذَا ذَبَحَ فَنَسِيَ التَّسْمِيَةَ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ، قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَيَعْقُوبَ، وَمُحَمَّدٍ وَالْحُجَّةُ لَهُمْ أَنَّ ظَاهَرَ الْآيَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبِيحَةُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَامِدًا وَلَا نَاسِيًا أَلَا تَرَى أَنَّ فِيهَا {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فَخَرَجَ بِهَذَا النِّسْيَانِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ نَسِيَ فِسْقٌ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ إِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا غَيْرَ مُتَهَاوِنٍ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ أَبِي وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] قَالَ: خَاصَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: مَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ وَمَا ذَبَحْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ.
فَهَذَا مِنْ أَصَحِّ مَا مَرَّ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُسْنَدِ وَخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعْنِي بِهِ الْمَيْتَةَ وَمَا ذَبَحَهُ الْمُشْرِكُونَ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مَأْكُولٌ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ عَليهِ اسْمُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْمُسْلِمِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَدْ حَكَى حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ، عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُؤْكَلُ مَا ذَبَحُوا لِكَنَائِسِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمِ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَنَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ ذَبَائِحُ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسِ.
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] رُوِيَ عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَسَخَ هَذَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ وَقَالَ غَيْرُهُ لَيْسَ هَذَا بِنَسْخٍ إِنَّمَا هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ أَيْ لَمْ أَنْبَسِطْ إِلَيْهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ أَوْلَيْتُهُ عُرْضَ وَجْهِي وَهَذَا وَاجِبٌ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 159] قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَالدَّيْنَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكَانُوا شِيَعًا فِرَقًا أَحْزَابًا مُخْتَلِفَةً {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ نَسَخَهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَالَ غَيْرُهُ لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لَسْتَ مِنْ فُلَانٍ وَلَا هُوَ مِنِّي إِذَا كُنْتَ مُخَالِفًا لَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنْتَ مِنِّي فَرْسَخًا أَيْ مَادُمْتُ أَسِيرُ فَرْسَخًا عَلَى أَنَّهُ رَوَى، أَبُو غَالِبٍ، عَنْ، أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] قَالَ هُمُ الْخَوَارِجُ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَزِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَاحِدَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتَخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا فَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ مُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فَهَذَا مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِمَعْزِلٍ.